بقلم: علياء نصر
بين مقولة محمد شكري : “..على المرء أن يبقى مشغولاً للحد الذي يلهيه عن تعاسته ..”
ومقولة غازي القصيبي : “.. العمل لا يقتل مهما كان شاقا ولكن الفراغ يقتل أنبل ما في الإنسان.. “محاولة للتدليل على أن الفراغ يجر الإنسان نحو التعاسة والبؤس ؛ ومحاولة لإقناعك بأن الفراغ يضخم غالبية الشعور ، يضخم العاطفة و التعب و الألم ، ومحاولة للجزم بأن الغارق بانشغالاته يكون متزنًا بانفعالاته تجاه الحياة ، لأنه ببساطة لا يملك الوقت لينجرف تجاه شعور (أحمق) ، هى محاولة لتصدير فكرة مفادها أن الفراغ هو العدو الحقيقي للإنسان.
فهل هذا الزعم وهذه النظرة السلبية في موضعها فيما يخص الفراغ.
منذ بداية التاريخ عكفت النخب السلطوية وحديثا الرأسمالية على تضخيم قيمة العمل الشاق والمستمر بلا توقف لدى الطبقات الكادحة ، والحق أن هذا الاتجاه الذي يدعمه الكثيرون ـ من غير وعى – هو من موبقات الرأسمالية العالمية الشرسة ،التى غذت فكر الجمهور (من خلال أبواقهم الإعلامية) بمثل هذه التوجهات، ولا يعني هذا أننى أدعو إلى الكسل والبلادة أو أحرض ضد العمل فهذا تحميل لكلامى فوق ما يحتمل، لكن إبقاء الإنسان مشغولا طوال الوقت هو طامة كبرى ،هو ببساطة أن تتحول إلى ثور يحرك ساقية وهو معصوب العينين ،هو باختصار أن تفيق يوما على حقيقة أن عمرك قد ولى دون أن تنعم بيوم واحد ترتوى فيه من الحياة الحقة،هو باختصار أن تجمع الفتات وتشقى في جمع ما لن تهنأ به يوما، .. فما جدوى انقضاء العمر فى العمل الشاق الذي لا ينقطع لجنى أموال إن كنت لا تجد الوقت للاستمتاع بها، هى جهود عبثية إذن بل هو ضرب من الجنون، أن تفنى أيام عمرك فى جنى المال ثم لا تكافئ نفسك بالتفرغ للاستمتاع -ولو دوريا- بقطاف ثمرات هذا الشقاء،.. هو تعذيب غير مفهوم للذات يا عزيزي يكاد يبلغ حد المازوخية، أما عن زعمهم بأن الفراغ يضخم الألم ويجلب الفكر ولا مخرج من التخلص من الآلام إلا بإغراق النفس في العمل ،فهو عندى كمن يلجأ لحل مشكلاته بتعاطى المخدرات ، فإن كنت تعتبر أن العمل مخدر تتعافى به من صدماتك وأحزانك، فأبشرك بأن أحزانك ستظل تطاردك حتى فى مناماتك، وعين الصواب هو أن تواجه الصدمات والترومات وتتصالح معها وتتحرر منها ،عوضا عن الغرق في العمل والكدح لا لشيء إلا لتطبيب داء بغير دواءه الصحيح ، وانتبه … فدواء الروح من كل صدمة لا يكون إلا بالتصالح مع الذات والواقع وتحرير المشاعر السلبية ، فالفراغ أحيانا يكون شفاءا من علة الروح وانتكاسة الوجدان، الفراغ الواعى المنضبط الذي تتوجه فيه الذات إلى معرفة ذاتها والاختلاء بها والرجوع إلى عالمها ومصدرها،..الكون بأكمله قائم على الفراغ، وإن شئت أزيدك من الشعر أبياتا ،.. فالأنبياء والملهمون لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من حقائق إلا بطول التفرغ وخوض تجارب التأمل المستصبر فى الطبيعة وفوق الجبال، الفراغ فى حقيقته هو امتلاء للنفس بحقيقة الصفرية ،بالانطفاء الذي يقود لكل الحقائق ، وهو ما لا يريدونك أن تصل إليه بالقطع..
إلهاؤك الدائم بالعمل دون انقطاع كالعبيد هو توجه ممنهج سعت إليه الرأسمالية منذ عقود لتبقي عليك عبدا في منظومة لا يستفيد فيها غيرهم، الرأسمالية تجعل من صاحب العمل مرفها يقضي فى العمل سويعات قليلة فى الوقت الذى يقضى العامل يومه بأكمله في العمل، هو يريد منك ألا تختلى بنفسك ساعة واحدة ،لئلا تفكر في أحوالك واستحقاقك ، لئلا تصل للنور في داخلك ،لئلا تتحرر من ربقة المصفوفة المعماة التى يحركها النظام العالمي..
فقط جرب أن تقذف بعصابة عينيك بعيدا لأيام قليلة.
توقف عن اجترار تلك الساقية المربوطة في عنقك.
امنح الروح التى همشتها مساحة لتطفو على سطح أولوياتك المادية.
جرب أن تتنفس بهدؤ وتسترخى وتختلى بذاتك..
مهما نعتك الآخرون بالانطوائية ومهما صوروا لك الخلوات بالاضطراب النفسي.
هى حقيقة أدركها المتصوفون والرهبان ومعلمو الزن والعارفون بالطريقة الحقة.. وبأنوارهم أضاءت خلاوى الصوفية وقلالى الرهبان.
هى ليست دعوة للتصوف أو الرهبنة أو لإهمال العمل بحماقة غير منضبطة.. لكنها دعوة لمنح الروح مساحتها التى تستحقها ،والتى ستنعكس بالضرورة تبعاتها استشفاءا على الجسد وعلى الواقع المادى،..فكم من مرض نفسي أو عضوى أنفقت عليه من الأموال الطائلة ولم تبرء منه؟ فقط جرب أن تبرئه بجلسات تختلى بنفسك فيها مع الطبيعة.
وكم من ألم نفسي تكبدته عقب صدمة كبيرة حسبت في تلهيك عنها بالعمل دواء لها ؟
هو دواء مر ومخدر كاذب يا صديقي..
دواء الروح يكون فى إطلاقها من إسار عالمك المادى المخادع ، فى تمهيد الطريق للحضور الكامل للروح والوعى.فى يقظتك المنضبطة من ذلك الوهم الكبير الذي يسرق أيامك ويفض حبات عقد عمرك واحدة تلو الأخرى.
أبدا لم يكن الفراغ نقمة بل على النقيض هو نعمة كبرى إن أجدت استخدامه وتوظيفه، ففى الفراغ شغل لا يفهمه الا العارفون، والمتفرغ لأمور الروح والوجدان هو في شغل لا يدركه المراقبون ولا يستوعبه الراصدون، .. فقط استفق من أوهام تجربتك الأرضية واستنر بحقيقة أنك تعبث بعمرك وترهق ذاتك بما يغرقها في مزيد من الوهم والشقاء وبما لا جدوى لك أنت ذاتك منه.
ولا أعني بذلك الإهمال المفاجئ للعمل والتحلل من المسؤوليات تجاه احتياجات الأسرة التى يسدها عملك . لكن ماذا لو كان هذا الضغط الهائل على النفس والعقل والجسد يمكن أن يفضي في النهاية إلى تعطل حتى لوظائف الجسد ،ومن ثم يفضي بالتبعية إلى انهيار كامل؟
فقط أقول حاول أن تخلق توازنا بين احتياجات الروح والاحتياجات المادية..
واظب على العمل المتوازن الذي لا تتحول فيه إلى آلة غير مميزة أو دابة معصوبة العينين نهارها كليلها، ..وأعط لروحك متنفسا من الهدؤ والتأمل من حين لآخر..
جرب أن تمارس التأمل قليلا فى الطبيعة ومن دون مبالغة..أوقف ثرثرة العقل وضجيج الواقع من حولك فى ذلك الحلم الأرضي..
فقط توقف عن هذا الماراثون الذي تلهث فيه منذ سنوات..
توقف قليلا..
لتدرك شيئا مما خسرته في أيامك الخوالى ..
امنح الروح مساحتها وإلا فالبديل هو أن يتعطل الجسد مرضا وقهرا ..
استفق قبل أن تصبح هذه الكلمات على شفتيك حكمة متأخرة..
ونصيحة فات أوانها.