ياسر سليم
في يومٍ واحد، تناهى إلى سمعي رأيان مثيران للجدل حول عدد ساعات العمل. الأول من محمد فاروق، رجل الأعمال وصاحب مشروع شارك تانكس، يدعو فيه إلى العمل 12 ساعة يوميًا لتحقيق التقدم. والثاني لإيلون ماسك، الذي اعتبر أن العمل 100 ساعة أسبوعيًا هو السبيل للنجاح. ورغم الفجوة الضخمة بين واقع هؤلاء المليارديرات وأغلب الناس، فإن هذه الأفكار تشعل نقاشًا حول طبيعة العمل، حدوده، وأثره على الحياة.
ساعات العمل في الدول المتقدمة: المقياس ليس الكم
لنبدأ بنقطة أساسية: الدول المتقدمة ليست مناصرة لفكرة “الساعات الطويلة بلا حدود”. في أوروبا مثلًا، يبلغ متوسط ساعات العمل الأسبوعي حوالي 40 ساعة، وهناك دول تجرب نظام 4 أيام عمل فقط بحد أقصى 32 ساعة أسبوعيًا، مع نتائج إيجابية ملحوظة على الإنتاجية والسعادة. أما الصين، المعروفة بساعات العمل الشاقة، فقد دفعت شعوبها إلى العمل تحت ضغوط استثنائية أدت إلى انتشار مشكلات صحية، وأحيانًا وفيات.
الدراسات تثبت وجود علاقة واضحة بين ساعات العمل الطويلة وأمراض مثل الضغط، السكري، القلق، والاكتئاب. في بريطانيا، 60% من حالات الامتناع المرضي عن العمل ترتبط بالإرهاق الناتج عن الوظيفة. وبالرغم من ذلك، تُظهر الأبحاث أن الإنتاجية لا تزداد خطيًا مع زيادة ساعات العمل؛ فكل إنسان له حدود تؤدي تجاوزها إلى انخفاض الجودة والإبداع، خاصة على المدى الطويل.
التوازن بين العمل والحياة: رفاهية أم ضرورة؟
لطالما دار جدل حول مفهوم “التوازن بين العمل والحياة”. هل هو رفاهية؟ أم ضرورة لتحسين الإنتاجية وجودة الحياة؟ على مدى العقد الماضي، أظهرت الإحصاءات أن دولًا تعتمد سياسات تدعم هذا التوازن شهدت نموًا اقتصاديًا ملحوظًا.
دراسة أجرتها منظمة العمل الدولية أكدت أن تقليل ساعات العمل يزيد الإنتاجية لكل ساعة. بينما كشفت دراسة أمريكية عن علاقة مباشرة بين رضا الموظفين عن حياتهم الشخصية ومستوى أدائهم في العمل.
التحدي الأكبر لتحقيق هذا التوازن يكمن في:
- ثقافة العمل الزائد: التي تعتبر ساعات العمل الطويلة دليلًا على الالتزام.
- التكنولوجيا: التي تجعل العمل متاحًا 24/7.
- الضغوط المعاصرة: التي تجعل التوازن صعب المنال.
من السعي للثروة إلى تقليل التفاوت
رغم أهمية بذل الجهد، ليس كل شيء يعتمد على العمل الشاق وحده. النجاح ليس عملية حسابية تعتمد على عدد الساعات، بل يتأثر أيضًا بالذكاء، الظروف، والفرص المتاحة. بعض الناس يفضلون الراحة مقابل دخل أقل، والبعض الآخر يجد سعادتهم في الإنجاز بعيدًا عن المال. الأهم هو تقليل الفجوة الهائلة بين الأغنياء والفقراء، لأن التفاوت الكبير يهدد استقرار المجتمع أكثر من ساعات العمل نفسها.
كيف ندعم التوازن؟
الشركات والمؤسسات يمكن أن تلعب دورًا كبيرًا من خلال:
- مرونة ساعات العمل: لإعطاء الموظفين حرية أكبر.
- برامج الصحة والرفاهية: لدعم الصحة النفسية والجسدية.
- فرص التطوير المهني: لتحفيز النمو الوظيفي.
في النهاية، العمل وسيلة لتحقيق الحياة، وليس العكس. لا يمكن أن تكون قيمة الإنسان مرتبطة فقط بعدد الساعات التي يقضيها في مكتبه. التوازن بين العمل والحياة ليس رفاهية، بل ضرورة لصحة الفرد والمجتمع، وأي محاولة لتجاهل ذلك تعيدنا إلى عصرٍ أثبت فشله تاريخيًا.